فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

{كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات}، يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. {فِى الدنيا والاخرة}، يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم، ولا يدوم إلا العمل الصالح؛ وفي الآخرة أنها تدوم وتبقى ولا تزول. وقال بعضهم: معناه كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا، لعلكم تتفكرون في الآخرة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

واللام في {لكم} للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين. وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله: {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله: {والآخرة} إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل: قل فيهما نفع وضر لكان بيانًا للتفكر في أمور الدنيا خاصة، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له: الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ.
ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله: {ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو}.
ويجوز أن تكون الإشارة بقوله كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجًا لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور. اهـ.

.قال الفخر:

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والأخرة} فيه وجوه الأول: قال الحسن: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون والثاني: {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} فيعرفكم أن الخمر والميسر فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لابد من ترجيح الآخرة على الدنيا الثالث: يعرفكم أن إنفاق المال في وجوه الخير لأجل الآخرة وإمساكه لأجل الدنيا فتتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وتعلمون أنه لابد من ترجيح الآخرة على الدنيا.
واعلم أنه لما أمكن إجراء الكلام على ظاهره كما قررناه في هذين الوجهين ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولًا عن الظاهر لا لدليل وأنه لا يجوز. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر، والإِنفاق، وأخبر تعالى؛ أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكْرته.
قال الداووديّ: وعن ابن عبَّاس: لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ، يعني: في زوال الدنْيا وفنائِها، وإِقبال الآخرة وبقائِها. انتهى.
قال الغَزَّالِيُّ رحمه الله تَعَالَى: العَاقِل لا يغفُلُ عن ذكْر الآخرةِ في لَحْظة؛ فإِنها مصيره ومستقرُّه، فيكون لَهُ في كلِّ ما يراه من ماءٍ، أو نارٍ، أو غيرهما عبرةٌ؛ فإن نظر إلى سوادٍ، ذكر ظلمة اللَّحْد، وإِن نَظَر إِلى صورة مروِّعة، تذكَّر مُنْكَرًا ونكيرًا والزبانيةَ، وإِن سمع صوتًا هائلًا، تذكَّر نفخة الصُّور، وإِنْ رأى شيئًا حسَنًا، تذكَّر نعيم الجنَّة، وإِن سمع كلمةَ ردٍّ أو قَبُولٍ، تذكَّر ما ينكشفُ لَهُ من آخر أمره بعد الحسَابِ؛ من ردٍّ أو قبول، ما أجدر أن يكون هذا هو الغالِبَ على قَلْبِ العاقِلِ، لا يصرفُهُ عنه إِلاَّ مُهِمَّاتُ الدنيا، فإِذا نسب مدةَ مُقَامه في الدُّنْيا إِلى مدة مُقَامه في الآخِرة، استحقر الدنيا إِنْ لم يكُنْ أغفل قلبه، وأعميتْ بصيرته. اهـ.
موعظة:

.قال ابن عجيبة:

{كذلك يبن الله لكم الآيات} أي: مثل هذا التبيين الذي ذكرنا، {يُبين} لكم الآيات، حتى لا يترك إشكالًا ولا وهمًا، {لعلكم تتفكرون} بعقولكم، وتأخذون بما يعود نفعه عليهكم، فتتفكرون {في الدنيا} وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها، إذا أقبلت كانت فتنة، وإذا أدبرت كانت حسرة، لا يفي طالبُها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها، ضيقة الزمان والمكان، عمارتها إلى الخراب، وشأنها إلى انقلاب، سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «مَالِي وللدنيا، إنما مَثَلي ومثلُ الدنيا كرجلٍ سَافَرَ في يوم صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تحت شَجَرةٍ، ثم رَاحَ وَتَرَكَها» وفي صحف إبراهيم عليه السلام: جبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب- أي: يتعب- عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها. وأنشدوا:
ألا إنَّما الدنيا كأحْلاَمِ نَائِم ** وكُلُّ نعيمٍ ليسَ فيها بِدَائِم

تَذَكَّرْ إذا ما نِلْتَ بالأمس لَذَّةً ** فأفْنَيْتَها هل أنتَ إلا كَحَالِمِ

وتتفكرون في {الآخرة} ودوام نعيمها، وسعة فضائها، وبهجة منظرها؛ فترغبون في الوصول إليه، وتتأهبون للقائها، فتؤثرونها على هذه الدار الفانية. قال بعض الحكماء: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان ينبغي للعاقل أن يختار ما يبقى على ما يفنى، لاسيما والأمر بالعكس، الدنيا من طين يفنى، والآخرة من ذهب يبقى، فلا يختار هذه الدار إلاَّ أحمق خسيس الهمة، وبالله التوفيق. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:

.باب تَحْرِيمِ الْخَمْرِ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}.
هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ اقْتَضَتْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَوْ لَمْ يَرِدْ غَيْرُهَا فِي تَحْرِيمِهَا لَكَانَتْ كَافِيَةً مُغْنِيَةً وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ}، وَالْإِثْمُ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِثْمَ مُحَرَّمٌ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى إخْبَارِهِ بِأَنَّ فِيهَا إثْمًا حَتَّى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ كَبِيرٌ، تَأْكِيدًا لِحَظْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إبَاحَتِهَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَنَافِعُ الدُّنْيَا؛ وَإِنَّ فِي سَائِر الْمُحَرَّمَاتِ مَنَافِعَ لِمُرْتَكِبِيهَا فِي دُنْيَاهُمْ، إلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ لَا تَفِي بِضَرَرِهَا مِنْ الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِارْتِكَابِهَا.
فَذِكْرُهُ لِمَنَافِعِهَا غَيْرُ دَالٍّ عَلَى إبَاحَتِهَا لاسيما وَقَدْ أَكَّدَ حَظْرَهَا مَعَ ذِكْرِ مَنَافِعِهَا بِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} يَعْنِي أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ بِهِمَا مِنْ الْعِقَابِ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْعِ الْعَاجِلِ الَّذِي يَنْبَغِي مِنْهُمَا.
وَمِمَّا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا لَمْ يُسْكِرْ مِنْهَا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يُسْكِرُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرْضًا نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، فَكُلُّ مَا أَدَّى إلَى الْمَنْعِ مِنْهَا فَهُوَ مَحْظُورٌ، فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ مَمْنُوعَةً فِي حَالِ السُّكْرِ وَكَانَ شُرْبُهَا مُؤَدِّيًا إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، كَانَ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْفَرْضِ مَحْظُورٌ.
وَمِمَّا نَزَلَ فِي شَأْنِ الْخَمْرِ مِمَّا لَا مَسَاغَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ذِكْرَ تَحْرِيمِهَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا قوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ إلَّا فِيمَا كَانَ مَحْظُورًا مُحَرَّمًا، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ} وَذَلِكَ أَمْرٌ يَقْتَضِي لُزُومَ اجْتِنَابِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وَمَعْنَاهُ: فَانْتَهُوا.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ مَا يَلْحَقُ مِنْ الْمَأْثَمِ بِالسُّكْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ، وَالْمُوَاثَبَةِ، وَالْقِتَال، فَإِذَا حَصَلَ الْمَأْثَمُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ فَقَدْ وَفَّيْنَا ظَاهِرَ الْآيَةِ مُقْتَضَاهَا مِنْ التَّحْرِيمِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَلِيلِ مِنْهَا.
قِيلَ لَهُ: مَعْلُومٌ أَنَّ فِي مَضْمُونِ قَوْلِهِ: {فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} ضَمِيرُ شُرْبِهَا؛ لِأَنَّ جِسْمَ الْخَمْرِ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَأْثَمَ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَأْثَمُ مُسْتَحَقٌّ بِأَفْعَالِنَا فِيهَا، فَإِذَا كَانَ الشُّرْبُ مُضْمَرًا كَانَ تَقْدِيرُهُ: فِي شُرْبِهَا وَفِعْلِ الْمَيْسِرِ إثْمٌ كَبِيرٌ، فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْهَا، وَالْكَثِيرِ، كَمَا لَوْ قَالَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لَكَانَ مَعْقُولًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شُرْبُهَا، وَالِانْتِفَاعُ بِهَا، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَحْرِيمَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ؛ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ} قَالَ: الْمَيْسِرُ: هُوَ الْقِمَارُ، كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّة يُخَاطِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ.
قَالَ: وقَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قَالَ: كَانُوا لَا يَشْرَبُونَهَا عِنْدَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا صَلَّوْا الْعِشَاءَ شَرِبُوهَا، ثُمَّ إنَّ نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرِبُوهَا فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَكَلَّمُوا بِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} قَالَ: فَالْمَيْسِرُ: الْقِمَارُ، وَالْأَنْصَابُ: الْأَوْثَانُ، وَالْأَزْلَامُ: كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهَا.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَنَزَلَتْ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَنَزَلَتْ: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ» فَنَزَلَتْ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا، إنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَتُذْهِبُ الْعَقْلَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَ الْمُغِيرَةُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: شُرِبَتْ الْخَمْرَ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْبَقَرَةِ وَبَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ، فَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا حَتَّى تَحْضُرَ الصَّلَاةُ، فَإِذَا حَضَرَتْ تَرَكُوهَا، ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي الْمَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فَانْتَهَى الْقَوْمُ عَنْهَا فَلَمْ يَعُودُوا فِيهَا.
فَمِنْ النَّاس مَنْ يَظُنّ أَنَّ قَوْلَهُ: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} لَمْ يَدُلَّ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَالًّا لَمَا شَرِبُوهُ، وَلَمَا أَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَا سَأَلَ عُمَرُ الْبَيَانَ بَعْدُ.
وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ عِنْدَنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوا فِي قَوْلِهِ: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ الْإِثْمَ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ، فَإِنَّمَا ذَهَبُوا عَنْ حُكْمِ الْآيَةِ بِالتَّأْوِيلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَرَامًا لَمَا أَقَرَّهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شُرْبِهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَخْبَارِ عِلْمُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشُرْبِهَا وَلَا إقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ بَعْد عِلْمِهِ.
وَأَمَّا سُؤَالُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَيَانًا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ مَسَاغٌ، وَقَدْ عَلِمَ هُوَ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنَّهُ سَأَلَ بَيَانًا يَزُولُ مَعَهُ احْتِمَالُ التَّأْوِيلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الْآيَةَ.
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ النَّقْلِ فِي أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بِالْمَدِينَةِ وَيَتَبَايَعُونَ بِهَا مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، إلَى أَنْ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
فَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَقُولُ: إنَّ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إنَّمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وَقَدْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً قَبْلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ، بِقَوْلِهِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وَأَنَّ بَعْضَ مَنَافِعِهَا قَدْ كَانَ مُبَاحًا وَبَعْضَهَا مَحْظُورًا بِقَوْلِهِ: {قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}.
إلَى أَنْ أَتَمَّ تَحْرِيمَهَا بِقَوْلِهِ: {فَاجْتَنِبُوهُ} وَقَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حُكْمِ الْآيَات مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيم.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ الْفُقَهَاءِ: اسْمُ الْخَمْرِ فِي الْحَقِيقَةِ يَتَنَاوَلُ النِّيَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ.
وَزَعَمَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَهُوَ خَمْرٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بَالِنِي الْمُشْتَدِّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ غَيْرَهُ إنْ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ وَمُشَبَّهٌ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَشْوَانَ فَقَالَ لَهُ: أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ فَقَالَ: مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَمَاذَا شَرِبْتَ؟ قَالَ: الْخَلِيطَيْنِ؛ قَالَ: فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَلِيطَيْنِ».
فَنَفَى الشَّارِبُ اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُسَمَّى خَمْرًا مِنْ جِهَةِ لُغَةٍ، أَوْ شَرْعٍ لَمَا أَقَرَّهُ عَلَيْهِ؛ إذْ كَانَ فِي نَفْيِ التَّسْمِيَةِ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا حُكْمٌ نَفْيُ الْحُكْمِ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى حَظْرِ مُبَاحٍ وَلَا عَلَى اسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مُنْتَفٍ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ إلَّا مِنْ النِّيّ الْمُشْتَدِّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْخَلِيطَانِ لَا يُسَمَّيَانِ خَمْرًا مَعَ وُجُودِ قُوَّةِ الْإِسْكَارِ مِنْهُمَا عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْمَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَيَدُلَّ عَلَيْهِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَلَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بَشِيرٍ الْغَطَفَانِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَشْرِبَةِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: حَرَامٌ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ».
قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعَلَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ وَاقِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ قَطَنٍ عَنْ مُنْذِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا حَرَامٌ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ».
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ مَعَانِيَ: مِنْهَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بِشَرَابٍ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِي تَسْمِيَتِهِ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ، لِقَوْلِهِ: «وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ».
وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ هُوَ مَا يَحْدُثُ عِنْدَهُ السُّكْرُ، لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا اقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى السُّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَمَا فَصَلَ بَيْنهَا وَبَيْنَ الْخَمْرِ فِي جِهَةِ التَّحْرِيمِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهَا قِيَاسًا وَلَا اسْتِدْلَالًا؛ إذْ عَلَّقَ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِعَيْنِ الْخَمْرِ دُونَ مَعْنَى فِيهَا سِوَاهَا، وَذَلِكَ يَنْفِي جَوَازَ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ سَاغَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ.
فَلَيْسَ الْحُكْمُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بِعَيْنِهِ، بَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ مَنْصُوبًا عَلَى بَعْضِ أَوْصَافِهِ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ فِي فُرُوعِهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ تَابِعًا لِلْوَصْفِ جَارِيًا مَعَهُ فِي مَعْلُولَاتِهِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ لَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْخَمْرِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ، وَالْعِنَبَةِ».
فَقَوْلُهُ: «الْخَمْرُ» اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ، وَاللَّامِ عَلَيْهِ، فَاسْتَوْعَبَ بِهِ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يُسَمَّى بِهِ إلَّا وَقَدْ اسْتَغْرَقَهُ ذَلِكَ، فَانْتَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ يُسَمَّى خَمْرًا.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، هَلْ جَمِيعُ الْخَارِجِ مِنْهُمَا مُسَمًّى بِاسْمِ الْخَمْرِ أَمْ لَا؟ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ مُسَمًّى بِاسْمِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ وَالدِّبْسَ، وَالْخَلَّ وَنَحْوَهُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْهُ خَمْرًا، عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بَعْضُ الْخَارِجِ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ.
وَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْخَبَرِ، فَاحْتَجْنَا إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُرَادِهِ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْخَارِجِ مِنْهُمَا، فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي تَحْرِيمِ جَمِيعِ الْخَارِجِ مِنْهُمَا وَتَسْمِيَتِهِ بِاسْمِ الْخَمْرِ.
وَيُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ الْخَمْرَ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي قوله: {الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ} أَحَدَهُمَا؛ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُمَا جَمِيعًا. فَإِنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ هُوَ أَوَّلُ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: {مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ} بَعْضَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا؛ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ بَعْضِهَا خَمْرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ خَارِجٍ مِنْهُمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ يَعْتَوِرُهَا مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ، مِنْهَا التَّبْعِيضُ، وَمِنْهَا الِابْتِدَاءُ، كَقَوْلِكَ: خَرَجْتُ مِنْ الْكُوفَةِ وهَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعْنَى مِنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى ابْتِدَاءِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا، وَذَاكَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَصِيرَ الْمُشْتَدَّ.
وَالدِّبْسَ السَّائِلَ مِنْ النَّخْلِ إذَا اشْتَدَّ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ شَيْئًا إنَّهُ عَلَى رُطَبِهَا وَتَمْرِهَا وَدِبْسِهَا؛ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا مِنْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِابْتِدَاءِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ اسْمِ الْخَمْرِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ إلَّا مَا وَصَفْنَا، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ يَوْمَ حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ مِنْهَا شَيْءٌ وَابْنُ عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ السُّكْرُ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ التَّمْرِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ كَانَتْ أَشْرِبَتَهُمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَمَا يَشْرَبُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ إلَّا الْبُسْرَ، وَالتَّمْرَ وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كُنْتُ سَاقِيَ عُمُومَتِي مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، فَكَانَ شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ، فَلَمَّا سَمِعُوا أَرَاقُوهَا.
فَلَمَّا نَفَى ابْنُ عُمَرَ اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَهُ كَانَتْ شَرَابَ الْعِنَبِ النِّيءِ الْمُشْتَدِّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهَا غَيْرُ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي الْخَمْرَ سَبِيئَةً وَلَمْ تَكُنْ تُسَمِّي بِذَلِكَ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ تَمْرِ النَّخْلِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُجْلَبُ إلَيْهَا مِنْ غَيْر بِلَادِهَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْأَعْشَى: وَسَبِيئَةٍ مِمَّا يُعَتِّقُ بَابِلُ كَدَمِ الذَّبِيحِ سَلَبْتهَا جَرْيًا لَهَا وَتَقُولُ: سَبَأْتُ الْخَمْرَ، إذَا شَرَيْتَهَا؛ فَنَقَلُوا الِاسْمَ إلَى الْمَشْرِيِّ بَعْد أَنْ كَانَ الْأَصْلُ إنَّمَا هُوَ بِجَلْبِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ عَلَى عَادَتِهَا فِي الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ حُجَّةٌ فِيمَا قَالَ مِنْهَا فَقَالَ: دَعْ الْخَمْرَ تَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا لِمَكَانِهَا فَإِنْ لَا تَكُنْهُ أَوْ يَكُنْهَا فَإِنَّهُ أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا فَجَعَلَ غَيْرَهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ أَخًا لَهَا بِقَوْلِهِ: رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا لِمَكَانِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُسَمَّى خَمْرًا لَمَا سَمَّاهُ أَخًا لَهَا.
ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَا تَكُنْهُ أَوْ يَكُنْهَا فَإِنَّهُ أَخُوهَا فَأَخْبَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ هُوَ.
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَخْصُوصٌ بِمَا وَصَفْنَا وَمَقْصُورٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَا بَلْوَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِشُرْبِ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ التَّمْرِ، وَالْبُسْرِ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهَا بِالْخَمْرِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بَلْوَاهُمْ بِالْخَمْرِ خَاصَّةً قَلِيلَةً لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا عَرَفَ الْكُلُّ مِنْ الصَّحَابَةِ تَحْرِيمَ النِّيّ الْمُشْتَدِّ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا.
وَرُوِيَ عَنْ عُظَمَاءِ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ شُرْبُ النَّبِيذِ الشَّدِيدِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَخْلَافِهِمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَعْرِفُونَ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَلَا يُسَمُّونَهَا بِاسْمِ الْخَمْرِ، بَلْ يَنْفُونَهُ عَنْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَنَاوَلُهَا؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ شَارِبِ الْخَمْرِ وَأَنَّ جَمِيعَهَا مُحَرَّمٌ مَحْظُورٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيذَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لَعَرَفُوا تَحْرِيمَهُ كَمَعْرِفَتِهِمْ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ؛ إذْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ تَحْرِيمِهَا أَمَسَّ مِنْهَا إلَى مَعْرِفَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِعُمُومِ بَلْوَاهُمْ بِهَا دُونَهَا، وَمَا عَمَّتْ الْبَلْوَى مِنْ الْأَحْكَامِ فَسَبِيلُ وُرُودِهِ نَقْلُ التَّوَاتُرِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وَالْعَمَلِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَمْ يُعْقَلْ بِهِ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ وَلَا عُقِلَ الْخَمْرُ اسْمًا لَهَا وَاحْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي يُسْكِرُ كَثِيرُهَا خَمْرٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَبِمَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْخَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: التَّمْرِ، وَالْعِنَبِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ».
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوُهُ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ حَيْثُ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا كَانَ خَمْرُنَا يَوْمَئِذٍ إلَّا الْفَضِيخَ، فَحِينَ سَمِعُوا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ أَهْرَاقُوا الْأَوَانِيَ وَكَسَرُوهَا».
وَقَالُوا: فَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ خَمْرًا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَأَنَسٌ، وَعَقَلَتْ الْأَنْصَارُ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ الْفَضِيخِ وَهُوَ نَقِيعُ الْبُسْرِ؛ وَلِذَلِكَ أَرَاقُوهَا وَكَسَرُوا الْأَوَانِيَ، وَلَا تَخْلُو هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَحُجَّتُهُ ثَابِتَةٌ، وَالتَّسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا أَسْكَرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ كَثِيرُهُ فَهُوَ خَمْرٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهَا مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَنَّ الْأَسْمَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ حَقِيقَةً لِنَفْسِهِ وَعِبَارَةً عَنْ مَعْنَاهُ، وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مَا سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ مَجَازًا، فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَوَاجِبٌ اسْتِعْمَالُهُ حَيْثُمَا وُجِدَ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ؛ نَظِيرُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} فَأَطْلَقَ لَفْظَ الْإِرَادَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَقِيقَةً.
وَنَظِيرُ الضَّرْبِ الثَّانِي قَوْلُهُ: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْإِرَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِع مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} فَاسْمُ الْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَقِيقَةٌ فِيمَا أُطْلِقَ فِيهِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} فَأَطْلَقَ اسْمَ الْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَجَازًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْصَرُ الْعِنَبُ لَا الْخَمْرُ.
وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} فَاسْمُ الْقَرْيَةِ فِيهَا حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْبُنْيَانَ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} مَجَازٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَهْلَهَا.
وَتَنْفَصِلُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِأَنَّ مَا لَزِمَ مُسَمَّيَاتِهِ فَلَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ بِحَالٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَمَا جَازَ انْتِفَاؤُهُ عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ فَهُوَ مَجَازٌ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا قُلْتَ: إنَّهُ لَيْسَ لِلْحَائِطِ إرَادَةٌ كُنْتَ صَادِقًا وَلَوْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرِيدُ شَيْئًا، وَالْإِنْسَانُ الْعَاقِلُ لَيْسَتْ لَهُ إرَادَةٌ كَانَ مُبْطِلًا فِي قَوْلِهِ؟ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تَقُولَ: إنَّ الْعَصِيرَ لَيْسَ بِخَمْرٍ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: إنَّ النِّيَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ مَاء الْعِنَبِ لَيْسَ بِخَمْرٍ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَالشَّرْعِ.
وَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ فِي مَعْنَى أَسْمَاءِ الْمَجَازِ لَا تَتَعَدَّى بِهَا مَوَاضِعَهَا الَّتِي سُمِّيَتْ بِهَا، فَلَمَّا وَجَدْنَا اسْمَ الْخَمْرِ قَدْ يَنْتَفِي عَنْ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ سِوَى النِّيّ الْمُشْتَدِّ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ، عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَمْرٍ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ انْتِفَاءِ اسْمِ الْخَمْرِ عَمَّا وَصَفْنَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَشْوَانَ فَقَالَ: أَشَرِبْتَ خَمْرًا؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا شَرِبْتُهَا مُنْذُ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: فَمَاذَا شَرِبْتَ؟ قَالَ: شَرِبْتُ الْخَلِيطَيْنِ؛ فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَلِيطَيْنِ يَوْمَئِذٍ».
فَنَفَى اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَمْرٍ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ مِنْهَا شَيْءٌ فَنَفَى اسْمَ الْخَمْرِ عَنْ أَشْرِبَةِ تَمْرِ النَّخْلِ مَعَ وُجُودِهَا عِنْدَهُمْ يَوْمَئِذٍ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» وَهُوَ أَصَحُّ إسْنَادًا مِنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ؛ فَنَفَى بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِمَا خَمْرًا، إذْ كَانَ قَوْلُهُ: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» اسْمًا لِلْجِنْسِ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ مَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ؛ فَهَذَا الْخَبَرُ مُعَارِضٌ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الْخَمْرَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، وَهُوَ أَصَحُّ إسْنَادًا مِنْهُ.
وَيَدُلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ كَافِرٌ وَأَنَّ مُسْتَحِلَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا تَلْحَقُهُ سِمَةُ الْفِسْقِ، فَكَيْفَ بِأَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَمْرٍ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ خَلَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ لَا يُسَمَّى خَلَّ خَمْرٍ، وَأَنَّ خَلَّ الْخَمْرِ هُوَ الْخَلُّ الْمُسْتَحِيلُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ النِّيّ الْمُشْتَدِّ.
فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا انْتِفَاءَ اسْمِ الْخَمْرِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْمٍ لَهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّهُ إنْ ثَبَتَ تَسْمِيَتُهَا بِاسْمِ الْخَمْرِ فِي حَالٍ فَهُوَ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ السُّكْرِ مِنْهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاوَلهَا إطْلَاقُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهَا تَحْتَ إطْلَاقِ أَسْمَاءِ الْحَقَائِقِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ «الْخَمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ» مَحْمُولًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَتَوَلَّدُ مِنْهَا السُّكْرُ، فَسَمَّاهَا بِاسْمِ الْخَمْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ عَمَلَ الْخَمْرِ فِي تَوْلِيدِ السُّكْرِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ إنَّمَا تَسْتَحِقُّهَا فِي حَالِ تَوْلِيدِهَا السُّكْرَ قَوْلُ عُمَرَ: «الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» وَقَلِيلُ النَّبِيذِ لَا يُخَامِرُ الْعَقْلَ؛ لِأَنَّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ هُوَ مَا غَطَّاهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ مَجَازٌ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ، فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْطَوِيَ تَحْتَ إطْلَاقِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمَّى فَرَسًا لِأَبِي طَلْحَةَ رَكِبَهُ لِفَزَعٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: «وَجَدْنَاهُ بَحْرًا» فَسَمَّى الْفَرَسَ بَحْرًا؛ إذْ كَانَ جَوَادًا وَاسِعَ الْخَطْوِ؟ وَلَا يُعْقَلُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْبَحْرِ عَلَى الْفَرَسِ الْجَوَادِ.
وَقَالَ النَّابِغَةُ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ: فَإِنَّك شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ إذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ وَلَمْ تَكُنْ الشَّمْسُ اسْمًا لَهُ وَلَا الْكَوَاكِبُ اسْمًا لِلْمُلُوكِ.
فَصَحَّ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، وَأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَاءِ الْعِنَبِ النِّيّ الْمُشْتَدِّ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهَا مَجَازًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.